الاستراحة: غرفة العمليات السرية للقرارات المصيرية
- سُلاف المقوشي
- ١٣ فبراير
- 3 دقائق قراءة
هل تفكرت يوما في دورة حياة القرار في منظمتك؟ هل تتبعتها يوما لمعرفة من يؤثر على من؟ إن كنت قد تتبعتها يومًا فـإنك على الأرجح ستكتشف المقر الرسمي لاتخاذ القرارات، ولمناقشة التحديات، وللاستشراف المستقبلي وللتخطيط الاقتصادي، والتطلع العالمي: الاستراحة
الاستراحة: غرفة العمليات السرية للقرارات المصيرية
في المشهد المؤسسي الحديث، لطالما ارتبط اتخاذ القرار بمفاهيم مثل التخطيط الاستراتيجي، الاجتماعات الرسمية، والأطر التنظيمية الدقيقة. ولكن، في بعض السياقات، هناك فضاء مختلف تمامًا، بعيد عن الأضواء واللوائح، يتحول إلى مركز القرار الفعلي: الاستراحة.
الاستراحة، التي تُعرَّف تقليديًا بأنها مساحة للاسترخاء وتبادل الأحاديث الخفيفة، تتجاوز في بعض الأحيان هذا الدور لتصبح "غرفة عمليات غير رسمية" تُصاغ فيها السياسات، وتُتخذ القرارات المصيرية، ويُعاد فيها تشكيل مستقبل المشاريع. هذه الظاهرة تستحق التوقف عندها ليس فقط لفهم أبعادها، ولكن أيضًا لتفكيك بنيتها الداخلية.
الاستراحة: مقر القرارات المصيرية... بعيدًا عن المكتب
الاستراحة ليست مجرد مكان تذهب إليه لتنسى ضغوط العمل وترتاح قليلاً. إنها أشبه بـ"مجلس الشورى" غير الرسمي، حيث تُناقش قضايا العمل بعيدًا عن ضوضاء المكتب ورائحة الطابعة المعطلة. إنها المساحة التي تُخلق فيها الاستراتيجيات من رحم السجائر المتناثرة وأبخرة القهوة العربية، بينما تُلقى على الطاولة قرارات قد تغيّر مسار المشاريع دون أن يدري الفريق الرسمي شيئًا عنها.
حين يبدأ النقاش بلا استئذان
يبدأ الأمر كأي جلسة عادية، أحاديث خفيفة ومزاح متكرر عن فلان الذي نسي كلماته في العرض التقديمي، أو عن تفاصيل مشروع عالق بسبب الميزانيات. ثم، فجأة، تتغير الوجوه، ويصبح النقاش أكثر جدية.
"طيب يا شباب، عندنا هالموضوع... وش رايكم؟"
وهكذا، دون مقدمة أو جدول أعمال، تتحول الاستراحة إلى غرفة اجتماعات مرنة، بلا شاشات عرض، بلا أوراق رسمية، وبلا الحاجة للإستئذان للتحدث. الجميع حاضر، كل كوب قهوة يمثل مقعدًا حول الطاولة الوهمية.
قادة المشهد
في هذه الجلسة، هناك دائمًا الشخص "المبادر"، ذلك الذي يبدأ الحديث وكأنه يستعرض رؤيته أمام مجلس إدارة دولي. صوته مليء بالثقة، يستخدم يده اليمنى للإشارة إلى نقاط وهمية، ويبدأ عباراته بجمل من نوع:
"المشكلة بسيطة لو تفكرون فيها..."
"ترى أنا تكلمت مع أبو فلان أمس وقال لي الموضوع قابل للتعديل."
ثم يأتي "المحلل"، ذاك الذي يجلس عادةً في الزاوية، يُدخّن بهدوء وينتظر اللحظة المناسبة ليدلي برأيه. لا يتحدث كثيرًا، لكن حين يفعل، فإنه يثير الحيرة:"أنا أقول، بدل ما نتوسع بالمشروع، نركز على تحسين الوضع الحالي. نحتاج جودة قبل أي شيء."
وأخيرًا، هناك "المتحمس"، الذي يتفق مع الجميع بلا استثناء. يهز رأسه بحماس ويقول:"كلامك صحيح... وأنا كنت أفكر بنفس الشيء!"
خطة العمل القادمة
لا أحد يكتب أي شيء بالطبع. الخطة تُنسج في الهواء، تعتمد على ذاكرة من شرب ثلاثة أكواب من القهوة للتو، ويُنهيها أحدهم بجملة ختامية:يبيلنا نجلس عليها."
عناصر الإلهام: القهوة والشاي
لا يمكن للقرارات أن تُصنع دون العتاد الرسمي: القهوة والشاي. الأول يثير العقول، والثاني يهدئ النفوس. وبين رشفة وأخرى، تنطلق الأفكار، بعضها مجنون، وبعضها عبقري. الكوب الذي يُرفع إلى الشفاه ليس مجرد مشروب؛ إنه إشارة إلى أن الشخص الذي يمسك به لديه فكرة لتغيير العالم (أو على الأقل تغيير ترتيب مكاتب الإدارة).
حديث الأريكة
الأريكة في الاستراحة ليست مجرد قطعة أثاث؛ إنها أشبه بمنصة نقاش. كل أريكة تحمل فوق وسائدها قرارات حاسمة:
مشروع جديد يُعتمد بعد نقاش بسيط.
فكرة تطوير تُولد من مزحة عن صعوبة الأنظمة القديمة.
اتفاق غير رسمي على تعديل خطة عمل الأسبوع القادم.
الأريكة تشهد كل شيء، ولا تحتاج إلى توقيعات أو أختام رسمية لتوثيق ما يدور عليها.
النهاية غير المكتملة
حين تنتهي الجلسة، يُغلق النقاش عادة بجملة مطاطة:"خلاص، ندرسها زيادة بكرة."
لكن، بكرة لن تأتي. القرارات أصبحت شبه نهائية، وما تبقى منها هو مجرد تفاصيل "غير مهمة". كل ذلك دون علم باقي الزملاء الذين سيجدون أنفسهم أمام خطة جديدة في صباح اليوم التالي، جاهزين للمفاجأة، دون أي فكرة أنها صُنعت على أريكة في زاوية استراحة.
هكذا تعمل الاستراحة، بصمتها المتقن وسحرها الخاص، المكان الذي يتحول فيه الحديث غير الرسمي إلى قرارات، والمزاح إلى استراتيجيات. وكل ذلك على أضواء خافتة، مع أصوات الأكواب التي تُطرق على الطاولة، بينما العالم خارج الأريكة يظن أن العمل ينتهي عند الساعة الخامسة.
Comments